"عودة روسيا"
الدكتور غسان ملحم

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

 

Monday, 08-Jan-2024 14:08

شكلت ظاهرة عودة روسيا من جديد، من وجهة نظر المراقب العلمي، ومن زاوية المراقبة العلمية، حالة مشهدية لافتة، لا بد من التوقف عندها والتأمل والتفكر فيها، إذ أنها تسترعي الإنتباه وتستدعي الإهتمام، بعيدًا من الخلفيات السياسية والأيديولوجية. فهي مسألة قد تبدو كحقيقة علمية وحتمية تاريخية. وهي ظاهرة مهمة، بل هي في غاية الأهمية والخطورة أيضًا، من منظار ومنظور الجيوبوليتيك والإستراتيجية على حد سواء، كما بميزان الحسابات والتقديرات والتوقعات الجيوسياسية والجيواستراتيجية. فماذا تعني عودة روسيا مجددًا إلى حلبة الصراع العالمي ومنصة المنافسة العالمية؟ وما هو المسار السياسي والتاريخي والزمني لصيرورة هذه العودة لروسيا؟ كذلك، ما هي الإرهاصات والمؤشرات والمحطات والمفاعيل والتداعيات أيضًا؟ ثمة أسئلة عدة من هذا الرصد العلمي لسيرورة صعود روسيا منذ سنوات عدة، سنحاول الإجابة عليها في هذه المقالة.

 

روسيا وحرب جورجيا 2008

مثلت حرب روسيا ضد جورجيا في آب 2008 علامة فارقة في مسار صعود روسيا التدريجي وعودتها مجددًا كلاعب دولي لا يمكن تجاهله أو تغافله، ولا التقليل من وزنه ودوره على الصعيدين العالمي والإقليمي. هي محطة تاريخية نوعية بكل معنى الكلمة. وقد أحدثت انعطافة استراتيجية ملحوظة في مسار تطور منظومة العلاقات الدولية. كما أنها أعطت مؤشرًا لافتًا، ذا مدلول سياسي واستراتيجي، على التغير البنيوي في نمط توزيع القوة الدولية وتوازن القوى الدولية. تزامنت الحرب مع اندلاع أزمة الرهن العقاري الأمريكي سنة 2008، التي تمخضت عنها الأزمة المالية العالمية سنة 2009، التي اجتاحت العالم بأسره، ولا سيما العالم الغربي، الإقتصادات الغربية عمومًا والإقتصادات الأوروبية خصوصًا، حيث ضربت الرأسمالية العالمية والرأسماليات الغربية، بخلاف النبوءات والتنبؤات اللتين أطلقهما الدكتور فرنسيس فوكوياما في كتابه حول "نهاية التاريخ" بانتصار الرأسمالية النهائي.

 

على أية حال، ما بعد هذه الحرب يختلف إلى حد كبير وبعيد عما قبلها في العقود الثلاثة الأخيرة منذ تفكك وانهيار الإتحاد السوفياتي حتى تاريخه. كانت هذه الحرب إيذانًا بقرب نهاية حقبة الهيمنة الأحادية الأمريكية التي بلغت ذروتها إبان أحداث 11 أيلول 2001، كما بعدها مباشرة مع غزو أمريكا لأفغانستان سنة 2002 واجتياح أمريكا للعراق سنة 2003 تباعًا. عند هذه اللحظة التاريخية، في إشارة إلى حرب الروسية – الجورجية سنة 2008، بدأت تتغير وتتبدل المعطيات والوقائع والحقائق الدولية، السياسية والعسكرية والإستراتيجية، ولا سيما تلك التي تتعلق بمكانة ودور روسيا حاضرًا ومستقبلًا. هذه الملاحظة العلمية يمكننا أن نرصد إرهاصاتها على أكثر من صعيد ومستوى، في أكثر من موضع ومقام، ولدى أكثر من محطة ومناسبة، في الرؤية السياسية، الوضعية الإستراتيجية، الخطاب الإعلامي، السياسة الخارجية، العقيدة العسكرية، السلوك العملاني والأداء الميداني، بمعنى التزام الإتحاد الروسي بعد الإتحاد السوفياتي تحمل المسؤولية الدولية والإضطلاع بها.

 

روسيا وأحداث الربيع العربي 2010

تبقى أحداث الربيع العربي، أو لنقل بالأحرى ما بات يُصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي، بغض النظر عن الإختلاف والخلاف في النظرة إليها، تقدير الموقف حيالها، استشراف المستقبل بعدها، وكذلك التقييم لها، والتي انطلقت في كانون الأول 2010، حدثًا بالغ الأهمية والخطورة على السواء. فقد تركت أثرًا عميقًا في النظام الإقليمي، وأدت إلى تقويض مفهوم الأمن القومي العربي، بل إنها طالت في مترتباتها النظام الدولي برمته. منذ البداية، أدركت روسيا الجوانب والأبعاد كافة لهذه الظاهرة المركبة والمعقدة. وعمدت إلى المراقبة عن كثب لكيفية سير الأمور على ضوء الأحداث في ساحات وميادين الأقطار العربية. واستمرت بالمتابعة والمواكبة. وهي التزمت الحيطة والحذر والحرص على خلفية المعرفة والإحاطة بالخلفيات والمضامين والمفاعيل لأحداث الربيع العربي طوال العقد الماضي من القرن الحالي، أي طيلة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

 

مع ذلك، لم تتردد روسيا البتة في الدخول على خط هذا الإشتباك الدولي – الإقليمي، والإنخراط في مجريات الوقائع والأحداث في أكثر من بلد عربي، في مرات متعددة ومتكررة، من مثل ليبيا وسوريا، بما في ذلك التدخل العسكري، لعلمها ويقينها بالحقائق والمعطيات بالنسبة للرهانات والمصالح والمطامع الكامنة وراء الحسابات والمخططات والسيناريوهات المتشابكة والمشتبكة. لم تنطلِ على موسكو المزاعم الكاذبة والإدعاءات الباطلة والشعارات البراقة والخداعة، من مثل حماية واحترام حقوق الإنسان، التدخل الإنساني ولأسباب إنسانية، محاربة ومكافحة الفساد والإرهاب، تشجيع التطور أو التحول الديمقراطيين ودعم الأنظمة الديمقراطية لا الأنظمة غير الديمقراطية، التوتاليتارية والديكتاتورية. وكانت مناسبة للمواجهة بين موسكو وحلفائها وشركائها وأصدقائها من جهة، والقوى الغربية عامة والقوى الأطلسية خاصة، وعلى رأسها واشنطن، من جهة أخرى. هنا تبرز أهمية وضرورة المقارنة والمفاضلة بميزان الأرباح والخسائر وبميزان الإيجابيات والسلبيات.

 

روسيا وحرب سوريا 2015

تندرج أحداث سوريا طيلة العقد الأخير في سياق أحداث الربيع العربي وفي غمارها. هي ليست منفصلة عنها. لكنها تكتسي أهمية خاصة ومضاعفة لأسباب عدة، منها موقع سوريا ودورها وتحالفاتها وخياراتها ورهاناتها. لذلك، تبقى الحرب في سوريا مختلفة عن سواها من الأحداث في العديد من البلدان العربية، من حيث مسار تطور الأمور ومخرجاتها من النتائج والإفرازات والمترتبات المباشرة وغير المباشرة. على أية حال، يمكن تقسيم الحرب في سوريا إلى مرحلتين زمنيتين: المرحلة الأولى ما قبل التدخل العسكري المباشر لروسيا في سوريا، والمرحلة الثانية ما بعد التدخل العسكري المباشر لروسيا في سوريا. والمقصود هنا التدخل العسكري الجوي الروسي أو التدخل العسكري لسلاح الجو الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، بغض النظر عن وجود الإستشاريين العسكريين الروس والفرق الإستشارية العسكرية الروسية والقواعد العسكرية الروسية، بمقتضى اتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات التعاون العسكري والأمني والإستراتيجي بين موسكو ودمشق.

 

وقفت روسيا بجانب سوريا في الحرب. هي لم تتردد في المجاهرة بتقديراتها ومواقفها. على الصعيد السياسي والدبلوماسي، أيدت موسكو موقف دمشق في التصدي للعدوان ومواجهة الإرهاب. هي رفضت الطروحات والمخططات لتقسيم سوريا، وقبله إسقاط الشرعية وضرب الجيش والقوات المسلحة. تصدت موسكو للهجمة الغربية على سوريا، الأمريكية والأوروبية، كما الإسرائيلية، والتي كان بعض العرب ضالعًا فيها ومتواطئًا مع الغرب. واستخدمت حق النقض (الفيتو) مرارًا وتكرارًا لمنع تمرير مشاريع القرارات الدولية المعادية والمؤذية لدمشق في مجلس الأمن الدولي. وظلت تقف بجانبها بالرغم من الضغوط العالمية والإقليمية على كل من روسيا وسوريا في السياسة والإعلام والدبلوماسية، كما في الميدان والإستراتيجية. كان الموقف السياسي والدبلوماسي لموسكو تجاه دمشق واضحًا وثابتًا، لا لبس فيه، ولا فصال فيه. وهو ظل هكذا. كان ذلك في المرحلتين الأولى والثانية، وإن بدت موسكو بداية، متريثة، أو بالأحرى حذرة وحريصة، غير متسرعة وغير متهورة، لا هي ولا حتى دمشق، إزاء الدعاية السياسية، الزائفة والمزيفة، من الإعلام الغربي والإعلام العالمي والعربي الموالي للغرب، لناحية التأويل والتشويه للوقائع والحقائق والتضليل للرأي العام العالمي عامة، وضمنه الرأي العام الغربي، والرأي العام العربي والإسلامي خاصة، وضمنه الرأي العام السوري.

 

إنتقلت موسكو إلى المرحلة الثانية من التأييد والدعم لدمشق في الحرب الكونية على الأخيرة. هي حرب عالمية على سوريا، ومن خلفها روسيا، تقودها واشنطن، ومعها العواصم الغربية عمومًا والعواصم الأوروبية خصوصًا، وعدد من العواصم العربية، بأساليب ووسائل وأدوات عديدة. وأما على الصعيد العسكري والأمني، عمدت روسيا، لدى الإنتقال إلى المرحلة الثانية، إلى خوض غمار التدخل العسكري الجوي في سوريا بطلب من الحكومة السورية وحلفائها وأصدقائها. وجاء التدخل العسكري الجوي لروسيا في سوريا شرعيًّا ومشروعًا. كما أنه كان وازنًا وحازمًا وحاسمًا، ذو مدلولات سياسية واستراتيجية. هو منع استئناف واستكمال المؤامرة والمخطط التآمري ضد سوريا. ومنع سقوطها في أتون التقسيم بعد هذه الدوامة من العنف والإرهاب والفوضى العارمة، غير المنظمة، والعبث بطريقة سفسطائية بأمنها ونظامها وانتظامها من قبل القوى الغربية، الإمبريالية والإستعمارية، والقوى الرجعية العربية. كانت هذه الحرب بمثابة حرب بالواسطة والوكالة بين واشنطن وموسكو التي لم تخذل حليفتها ولم تتنصل من تحالفها. هي أثبتت صدقية التزامها السياسي مع حلفائها وأصدقائها، وأكدت صحة وصوابية خياراتها ورهاناتها. كما ضمنت لنفسها – أي موسكو – صمود الحليف – أي دمشق – وبقاء التحالف، وموطئ القدم على تخوم المياه الدافئة للحوض الشرقي للبحر المتوسط. الأمر الذي يحيلنا على الأسس والثوابت في السياسة الخارجية الروسية والأمن القومي الروسي والإستراتيجية العسكرية الروسية في الماضي والحاضر والمستقبل.

 

روسيا وأزمة شبه جزيرة القرم 2014

إنفجرت أزمة شبه جزيرة القرم في آذار 2014 بين روسيا من جهة وأوكرانيا وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، على خلفية ما بات يُعرَف بالإنقلاب السياسي في كييف. عمدت موسكو إلى إعلان ضم شبه جزيرة القرم للإتحاد الروسي إثر الإستفتاء الذي تم تنظيمه للغاية فورًا دون تسويف أو تأخير. واعتُبِرت الخطوة الروسية استفزازًا غير مسبوق للناتو. فقد التقطت روسيا اللحظة واقتنصت الفرصة بإتقان. هي أثبتت أنها تجيد لعبة التقاط اللحظات، لا تضييعها، واقتناص الفرص، لا تفويتها، في سياق المواجهة المفتوحة والحساب المفتوح مع الغرب عمومًا والناتو خصوصًا. هي لم تكن قضية عابرة. فقد حفرت عميقًا في التاريخ الحديث والمعاصر. ولا تزال المفاعيل الإستراتيجية، بعيدة المدى وطويلة الأمد، تتفاعل باطراد بين روسيا وأمريكا وأوروبا حتى حينه. وهي تبقى مسألة عالقة ومعلقة بين عواصم القرار، وإن كانت روسيا عمدت إلى حسم القضية من جانبها بطريقة أحادية وبصورة نهائية.

 

أدركت موسكو دقة الموقف في تلك اللحظة. وهي أظهرت هذه المرة بالتحديد أنها على استعداد للذهاب بعيدًا والمضي حتى النهاية في منازلة ومقارعة معسكر القوى الغربية في غمار الصراع بينها – هذا الصراع القديم والجديد، أو المستجد والمتجدد – وفي إطار تصفية الحسابات، بما في ذلك تسديد الضربات وتسجيل النقاط، دون تردد أو تلكؤ، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بتحدي الغرب على وجه العموم والناتو على وجه الخصوص لموسكو وروسيا في مجالهما الحيوي، وبتهديدهما للأمن القومي الروسي في عمقه الإستراتيجي، في إشارة إلى منطقة شرقي أوروبا، ذات المكانة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، أو لنقل منطقة أوراسيا، بحسب الأدبيات الجيوبوليتيكية للمدرسة الروسية، الجغرافية والتاريخية، ومن أبرز رموزها وأعلامها على الإطلاق المفكر والمنظر الروسي ألكسندر دوجين. وعليه، انتقلت روسيا بالفعل من وضعية الدفاع سابقًا، ضمن حيز التدخل السلبي، إلى وضعية المبادرة حينها، ومن ثم وضعية الهجوم لاحقًا، ضمن حيز التدخل الإيجابي.

 

روسيا وحرب أوكرانيا 2022

يمكننا اعتبار أن أزمة شبه جزيرة القرم سنة 2014 بمثابة الجولة الأولى، بحيث يمكننا اعتبار أن الحرب الروسية – الأوكرانية التي نشبت في شباط/فبراير 2022، ولا تزال قائمة حتى حينه، في إشارة إلى العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، بمثابة الجولة الثانية. هي لا تقل أهمية وخطورة عن التي سبقتها، بل هي أكثر أهمية وخطورة بالتأكيد. وهي تؤسس لمرحلة جديدة، تختلف كثيرًا – ربما تختلف جذريًّا – عن المراحل السابقة. بهذا المعنى، يمكننا القول إن حرب روسيا في أوكرانيا سنة 2022 من أهم أبرز وأخطر الأحداث والمحطات في القرن على الإطلاق. هي تستهل وتفتتح حقبة جديدة في العلاقات الدولية. وهي تؤكد انتهاء الأحادية القطبية الأمريكية وانتفاء الهيمنة الغربية المنفردة في الفضاء الدولي والكون السياسي. لذلك، ربما تكون هذه الحرب الحدث الأهم والأبرز والأخطر بالمقارنة مع الحروب والأحداث والأزمات الملحوظة في هذه المقالة.

 

ترفض روسيا بشكل قاطع فكرة تمدد الناتو شرقًا من خلال ضم أو انضمام أوكرانيا. هي ليست مستعدة للتنازل في هذه المنطقة الحيوية والحساسة، ولا المغامرة بأمنها القومي، سواء كان في مجالها الحيوي الخارجي، أو كان في عمقها الإستراتيجي الداخلي، بالنظر إلى ما يمثله وجود الناتو على حدودها في كييف وأوكرانيا من تهديد وخطر على موسكو وروسيا، مع العلم أن المسألة ليست مجرد قرار يُعتمَد أو خطوة تُتخَذ، ويتم الإعلان عنهما، وإنما هي عبارة عن مسار سلكته كييف بتحريض من واشنطن والعواصم الغربية، دون مراعاة الهواجس والمخاوف والحساسيات الروسية، وأخذها بعين الإعتبار، لأجل الوصول أو التوصل إلى تفاهم سياسي وتسوية سياسية حول هذه القضية، بعيدًا من الإستفزاز والتحدي والإستنفار والتهديد والتصعيد للتوتر. قامت روسيا بالإحاطة السياسية والأمنية والإستخبارية والإستراتيجية بهذا الموضوع لإماطة اللثام عن الواقع والحقيقة دون مواربة أو مراوغة. وهي تمكنت من إدراك ما ترمي إليه واشنطن عبر التسلل غير المبرر والتوغل غير المقبول نحو موسكو من بوابتي حلف شمالي الأطلسي والإتحاد الأوروبي، والإضاءة عليه أمام الرأي العام العالمي.

 

إندلعت الحرب، ولا تزال تدور رحاها في الميدان بين القوى المتحاربة، ومن خلفها القوى المتنازعة والمتصارعة بالواسطة والوكالة. إنقسم المتجمع الدولي والرأي العام الدولي بين مؤيد ومعارض في الغرب والشرق والشمال والجنوب، تبعًا للتموضعات والإصطفافات والحسابات السابقة واللاحقة. لكن روسيا بادرت إلى خوض غمار الحرب بجرأة وشجاعة في مواجهة الغرب متواطئًا والناتو متآمرًا، وليس أوكرانيا وحدها، بل المعسكر الغربي مجتمعًا. واستطاعت روسيا، مهما قيل وكُتِب، إحداث تغيير عميق بالخارطة السياسية لأوراسيا وشرقي أوروبا مع اقتحام شرقي أوكرانيا وفرض تقسيم الدولة الأوكرانية وتحرير المناطق والأقاليم والمقاطعات الروسية أو الموالية للدولة الروسية من النازية الأوكرانية الجديدة، وبالتالي إعادة رسم خطوط التماس وإعادة صوغ قواعد الإشتباك بينها وبين الناتو. لقد قيل وكُتِب الكثير حول الحرب الروسية – الأوكرانية، وتخلله الكثير من التأويل والتحريف والتشويه والتزييف. ولكن هزيمة أوكرانيا أولًا، خسارة أوروبا ثانيًا، وفشل أمريكا ثالثًا، هي وقائع دامغة وحقائق مثبتة. لقد اجتازت روسيا الكثير، وأنجزت الكثير. وهي واجهت الكثير، وتكبدت الكثير. وهي تخرج من هذه الجولة منتصرة ورابحة بميزان التقدير الإستراتيجي بإسقاط المؤامرات والمغامرات والمقامرات الأمريكية والأوروبية ضدها.

 

روسيا وأزمة كازاخستان 2022

لم تكد بعد تتجلى الإرهاصات لأزمة كازاخستان في كانون الثاني 2022، أو تطفو على السطح، أي قبيل بدء العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، حتى سارعت موسكو إلى التعامل مع الموقف الطارئ والمستجد بطريقة حازمة وحاسمة. فقد كانت موسكو على علم وبينة بالمخطط الأطلسي التآمري في أوكرانيا مسبقًا ومقدمًا. وهي لذلك كانت تعد العدة للرد على الإستفزاز والتصعيد من جانب واشنطن في وجهها ومحاولة الناتو التجرؤ على المس بمصالحها الوطنية والقومية. هي، حين سلكت خيار التدخل العسكري، العاجل والفوري، في كازاخستان، لإجهاض محاولة الإنقلاب السياسي والعسكري على أحد حلفائها وأصدقائها في المنطقة والعالم، تكون قد سددت ضربة عسكرية وسياسية للناتو من زاوية الموقف الروسي السلبي، الثابت والراسخ، بشأن ظاهرة الثورات الملونة، المفبركة والمدبرة.

 

أراد الناتو إرباك الموقف الروسي عبر محاولة الإنقلاب في كازاخستان، كما تقويض القدرة الروسية على التركيز في كيفية التعامل والتعاطي بفاعلية من قبل موسكو مع الأطلسيين على خط كييف وجبهة أوكرانيا، ناهيك عن محاولة تطويق روسيا وإحكام الطرق من حولها ومحاصرتها بطريقة أو بأخرى. وهي وجدت أن واشنطن وبقية العواصم الغربية، ولا سيما العواصم الأوروبية الغربية، تحاول تجاوز وتخطي الخطوط الحمراء بطريقة فاضحة وسافرة في كل من أوكرانيا وكازاخستان. وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى انعدام أو اختلال التوازن الروسي الإستراتيجي على هاتين الجبهتين المفتعلتين، فيما لو نجحت الخطة الأطلسية المرسومة والمعدة، مع الإشارة إلى التزامن والتوازي بين هاتين الأزمتين. لم يكن أمام موسكو سوى خيار واحد، هو الإسراع بوأد المؤامرة والمخطط التآمري في المهد وبالسرعة القصوى. وهكذا كان. قامت روسيا بحسم الموقف العسكري في الميدان، وحسم الموقف السياسي في المعادلة والميزان. وهي أطلقت إشارات واضحة وصريحة وأرسلت رسائل حاسمة وقاطعة إلى القوى المناوئة والمعادية لها، في إشارة إلى حلف الناتو والإتحاد الأوروبي، ولا سيما كل من واشنطن ولندن بالدرجة الأولى، وربما باريس وبرلين بالدرجة الثانية.

 

روسيا وعدوان إسرائيل 2023

يأتي العدوان الإسرائيلي ردًّا على عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023 للمقاومة الفلسطينية في غزة. إندلعت الحرب على خط الجبهة الجنوبية أولًا بين جيش الإحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وعلى خط الجبهة الشمالية ثانيًا بين جيش الإحتلال الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية. ثم امتد النزاع المسلح والصراع العسكري خارج نطاق فلسطين المحتلة الجغرافي، وعلى أكثر من ساحة وميدان في المنطقة، من لبنان وسوريا والعراق إلى اليمن والبحر الأحمر. هو أعاد خلط الأوراق على امتداد الإقليم بظل تشابك وتناقض وتضارب الحسابات والمصالح. كما أنه زاد الطين بلة مع اندلاع حالة الحرب في منطقة الشرق الأوسط وغربي آسيا، بوصفها الجبهة المشتعلة الثانية، بين إسرائيل وأمريكا وأوروبا من جهة وما بات يُصطلح على تسميته في الأدبيات السياسية بمحور الممانعة والمقاومة من جهة أخرى. يأتي ذلك في أعقاب اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في منطقة أوراسيا وشرقي أوروبا، بوصفها الجبهة المشتعلة الأولى، بين أوكرانيا وأمريكا وأوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى. الأمر الذي يجعل الستاتوكو أكثر تعقيدًا على المستويين العالمي والإقليمي.

 

منذ بداية الحرب، كان الموقف الروسي عقلانيًّا ومتوازنًا، وأكثر عقلانية وتوازنًا من المواقف الغربية، الأمريكية والأوروبية، المنحازة إلى الجانب الإسرائيلي والمتآمرة معه ضد الجانب الفلسطيني. كما أن الموقف الروسي يبدو أكثر إنسانية ومراعاة للإعتبارات الإنسانية، بالنظر إلى المشاهد الإنسانية والجرائم التي يقترفها كيان الإحتلال الإسرائيلي. يُضاف إلى ما سبق أن الموقف الروسي، لدى مقاربته والإحاطة به بقصد التقدير والتقييم، كان أكثر إنصافًا للجانب الفلسطيني، في إشارة إلى الشعب الفلسطيني على وجه التعميم والمقاومة الفلسطينية على وجه التخصيص، كما الشعب اللبناني والمقاومة اللبنانية والشعوب العربية والإسلامية وحركات المقاومة العربية والإسلامية. هو موقف سياسي ودبلوماسي، يعبر عن مسار تاريخي ثابت ومتماسك، يمكن البناء والرهان عليه، ويجب الإستفادة منه، ذلك أنه لطالما كان الإتحاد السوفياتي سابقًا والإتحاد الروسي لاحقًا أكثر تفهمًا للسردية الفلسطينية وأكثر مراعاة للحقوق والمطالب العربية. وهو كان ولا يزال يتطور ويتقدم بخطوات ثابتة لأسباب واعتبارات عديدة، لا يتسع المجال للخوض فيها بالتفصيل.

 

ترفض موسكو حتى اللحظة توصيف وتصنيف حركات المقاومة والتحرير الوطنية، الفلسطينية واللبنانية والعربية والإسلامية، كمنظمات إرهابية، وبالتالي إدراجها على لوائح الإرهاب، على غرار الدول والحكومات والعواصم الغربية، الأمريكية والأوروبية. وهي تقيم العلاقات والإتصالات وتعقد الإجتماعات واللقاءات مع هذه المنظمات بطريقة علنية ورسمية. إن موقف روسيا إبان هذه الحرب وهذا العدوان مؤيد وداعم لوقف إطلاق النار وإنهاء حالة الحرب ووقف العدوان ورفع الحصار وتحرير الأسرى فورًا دون قيد أو شرط. وهو لا يزال كذلك. وقد سعت الدبلوماسية الروسية إلى بلوغ هذه المقاصد وهذه الأهداف في منظمة الأمم المتحدة، ولا سيما مجلس الأمن والجمعية العامة. كما أنها لم تردد باستخدام حق النقض (الفيتو) لإسقاط مشاريع القرارات الدولية، الأمريكية والبريطانية، التي تدين المقاومة، وترفض وقف إطلاق النار ووضع حد للحرب والعدوان. وقد قوبلت جهودها السياسية ومساعيها الدبلوماسية لإنهاء هذا النزاع المسلح وهذا الصراع العسكري ووضع حد لهذه الكارثة الإنسانية بإصرار واشنطن، ومعها لندن وباريس في المرة الأولى، ثم لندن في المرة الثانية، لتبقى هي وحدها في المرة الثالثة، على استخدام حق النقض (الفيتو) بطريقة فظة لعدم إنجاح المبادرات الروسية ولإفشال المحاولات الروسية لمعالجة القضية بالأساليب السياسية والقانونية والدبلوماسية. مع ذلك، تتمسك روسيا بمبادئها وقناعاتها وطروحاتها ومواقفها. وهي الملاحظة التي يجب التفكر والتبصر فيها كثيرًا وبعيدًا وعميقًا.

 

تعود روسيا بقوة إلى الساحة العالمية. هي تبدو واثقة من نفسها ومن قدرتها على أن تستعيد زمام المبادرة على مسرح السياسة الدولية أيضًا. وهي تتقدم بخطى ثابتة. فلا مكان على الإطلاق للتخاذل، ولا حتى التردد، ولا التراجع، في استراتيجيتها الجديدة والمستجدة وحساباتها ذات الصلة. هي تثبت للقاصي والداني أنها جديرة بالحياة، كما الصعود السياسي على سلم الترقي والحضاري، من بوابة العودة الحتمية التي لا رجوع عنها. لقد أعدت موسكو العدة السياسية والإقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والإستراتيجية. وهي تستأنف وتستكمل مسيرها ومسيرتها، بالرغم من التحديات والتهديدات والأخطار، كما الصعوبات والتعقيدات والمعوقات والعراقيل. ويبقى أن الرهان على الوقت هو في مصلحة روسيا، ومعها بقية القوى الدولية والإقليمية، الناشئة والصاعدة، على حساب الهيمنة البائدة على العالم والمنطقة من قبل القوى الغربية، الإمبريالية والإستعماربة قديمًا وحديثًا.

الأكثر قراءة